كنت في تدوينة سابقة (هنا) تكلّمت عن بعض تقنيات البروبغندا التي يستعملها من يدور في فلك المحافظين الجدد وبيّنت الإرتباط العضوي لبعض رموز الطابور الخامس -ممّن يُسمّون أنفسهم بالإصلاحيين والمجدّدين والمثقفين ويُقدّمون أنفسهم غالبا تحت يافطة "الليبراليين الجدد"- بهم. ورأينا أنّ هذا الخطاب يرتكز على مجموعة من الأسس أهمها الخلط والتعميم والتضليل والغموض والكذب. ورغم أنّ أيّ خطاب بروبغندا قد يجمع كلّ أو بعض هذه التقنيّات إلاّ أنّ خطاب هؤلاء معد بشكل شديد التعقيد يصعب معه على غير المتخصّص أو المطّلع على حقيقة الأمور كشف زيفه ومواطن الخلل فيه. والمميّز في جماعة الطابور الخامس الذين يعملون في نشر بروبغندا اليمين المسيحي الغربي عموما والأمريكي خصوصا، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر هو إتقانهم لمثل هذا النمط من الخطاب.
في هذه التدوينة، سأقدّم نموذجا من خطاب يتقاطع بشكل كبير مع خطاب المحافظين الجدد. وسأعمل على بيان نقاط التقاطع والإلتقاء مع بروبغندا المسيحيّين المتطرّفين في الولايات المتحدة بشكل خاص. وقع اختياري اليوم على مقتطفات من تصريحات لأحد أرباب جلد الذات
، يساري قومي قديما/ليبرالي جديد حديثا، كويتي الجنسية وسبق أن عمل وزيرا للتربية والتعليم العالي في بلاده (1992 - 1996). إنّه أحمد عبد الله الربعي الذي توفي في 5 مارس 2008 بسبب المرض. لمزيد من المعلومات، يرجى الرجوع إلى هذه المصادر هنا وهنا وهنا.
لنشاهد أوّلا ما يقوله الرجل على شاشات تلفزات عربية عدّة. فقد قامت ممري (مشكورة) بجمع بعض من تصريحاته في الشريط التالي (اظغط هنا للتحميل):



Ahmed Alrabii: A Memri Video

يبدأ الرجل حديث
ه بما يلي:
نحن كمثقفين مهمتنا (...) وأنا [أستاذ] في الجامعة منذ عشرين سنة [إختصاص] فلسفة (...).
في التعليق الأوّل، تماما كما اعتاد منظّري المحافظين الجدد، بدأ هذا الرجل بتقديم مرجعية لكلامه [فلسفية علمية] ليطمئن مخاطبه إلى أنه بصدد شخص "يعرف ما يقول" وله تجربة وخبرة ودراية [عشرون سنة من التدريس في الجامعة].
ثم يقدّم فكرة محورية في كلامه [دحض نظريّة المؤامرة]:
نحن كمثقفين مهمتنا هي التصدي لهذا الكابوس الذي تمكّن بالعقل العربي. [لابدّ من التخلّي عن الإيمان] بنظرية المؤامرة لأنّ ذلك يعطي للعدو قوة خارقة (إسرائيل في كل بيت، في كل شارع، في كل مكان) ويجعل هزائمنا مبرّرة. بينما السبب هم حكامنا الذين أذلّو جيوشنا وخرّبوا بلداننا وسرقوا أموالنا (...).
كلام جميل من فتى واثق في نفسه، يقدّم الحجج ويسعى للإقناع. لكن هل كل جميل طيّب؟ دعونا نحاول الفهم والقراءة بين السّطور:
أوّلا: (
هذا الكابوس -نظرية المؤامرة- الذي تمكّن بالعقل العربي)
يريد هذا الرجل الإيحاء بأنّ نظريّة المؤامرة نظرية عربية. وهذا غير صحيح. نظرية المؤامرة غربية المنشأ (1920) وتداولها الغربيّون على نطاق واسع منذ سنة 1960 خصوصا بعد ظهور ما يسمّى بعمليات "الألوية المزيفة" (False Flags) على المستوى المخابراتي (أحد أشهرها العملية التي أدّت إلى انفجار حرب فيتنام). كما أنّ فكرة المؤامرة أصلا مصطلح لا يوجد في الأدبيات العربية عموما ولم يظهر إستعماله بشكل واضح إلاّ بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لمّا شكّك الكثير من الغربيين في الرواية الرسمية للأحداث. أمّا نكران نظرية المؤامرة جملة وتفصيلا فإمّا جهل بصيرورة التاريخ وإمّا جزء من المؤامرة ذاتها. وقد ثبت
تاريخيا أنّ شعوبا ودولا وأمما تعرّضت لمكائد ومؤامرات كثيرة. وهاهو الأستاذ محمد حسنين هيكل يستعرض هنا ما تعرّضت له مصر في الخمسينات من دسائس بسبب قناة السويس. هذا مثال والأمثلة في العهد الحديث عديدة، تعود إلى حقبة تقسيم الدولة العثمانية واتفاقية سايكس بيكو وتتواصل إلى الآن ولعلّ أحدثها مشروع "الشرق الأوسط الكبير" (تقاطع بين مشاريع القرن الأمريكي وإسرائيل الكبرى). لا يعني ذلك البتة أن نعتقد بأنّّ كل ما يحدث حولنا مؤامرة فهذا بالتأكيد غباء ولكن عقلنة هذه الفكرة لا ضير فيها. وهنا وهنا وهنا تجدون مقالات حول عقلنة نظريّة المؤامرة.
ثانيا: (
بينما السبب هم حكامنا الذين أذلّو جيوشنا وخرّبوا بلداننا وسرقوا أموالنا)
تجاهل هذا السيد عن قصد محنة العقل العربي الحقيقية دفاعا عن أنّ لا أحد يتآمر علينا وإنّما نحن من يبحث عن شمّاعة نعلّق عليها أخطائنا. هذا هو بالضبط ما تريد أن تسوّقه إسرائيل والغرب عبر ميمري والحرّة وشفاف الشرق الأوسط وغيرها من قنوات البروبغندا. ولتغطية ذلك يقول بأنّ مشكلتنا هي حكامنا وهو يعلم أحسن العلم بأنّ هؤلاء الحكام هم صنيعة غربية ويأتمرون بأوامر تصدر من واشنطن وباريس ولندن وغيرها
، سواء بشكل مباشر عبر القنوات الديبلوماسيّة أو غير مباشر عبر المؤسّسات والمنظّمات الدولية. وماذا لو خرج أحد هؤلاء الحكام عن طاعة الولايات المتحدة الأمريكية؟ [لمّا أراد محمد مصدق رئيس وزراء إيران في بداية الخمسينات تأميم النفط الإيراني وشق عصا الطاعة للغرب، ماذا حدث؟ ألم تدبّر له المخابرات الأمريكية إنقلابا ضده نفّذ بنجاح في أغسطس 1953؟] كيف يتجاهل هذا الوزير السابق القواعد العسكرية الأمريكية التي كانت ولا تزال في الكويت (حتى بعد إحتلال العراق وإخضاعه)؟ وهل تقع أرض العرب في مكان معزول من العالم كالقطب الجنوبي مثلا حيث لا نفط ولا حياة ولا مال؟ وهل نسي دوره ك"مثقّف" لمّا جلس على كرسي وزارة من أخطر الوزارات "التربية والتعليم"؟ وهل تناسى أنه هو نفسه ينتمي لطبقة الحكّام مادام قد مارس السلطة في يوم ما ولو بشكل محدود، وكانت مسؤوليته "إعداد الأجيال للمستقبل"؟
وللبرهنة على ما يقوله، يقدّم السيد الوزير مثالا:
مثل ذلك الصراع الذي احتدم حول قضيّة التخيير والتسيير بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم وكيف كان الحكّام المظطهدين للناس ينشرون في المساجد بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر وبالتالي جرائم الحاكم قضاء من عند الله وجب قبوله والرّضى به.
عمد السيد الوزير إلى مثال من التراث ليقنعنا
بأنّ حكّامنا فقط هم من يتآمرون علينا ليستطيعوا حكمنا كما يشاؤون. وإن كان في هذا الأمر بعض الحقيقة فإنّه كلام غير دقيق لعدّة أسباب: أولا، نحن بصدد "مؤامرات" خارجية هدفها السيطرة على بلداننا وخيراتها وجعلنا مجرّد قطيع من الماشية لا همّ له سوى الإستهلاك. الغرب لا يهمّه قطعا الإسلام كدين ولا يزعجه أن نصلّي خمس مرّات كل يوم وأن نصوم شهرا كاملا ولكن ما يُزعجه فعلا هو الرّابط الإيديولوجي والإجتماعي القادر على إنتاجه وبالتالي وجود ما يمكن أن يبني ثقافة "مقاومة وممانعة" قد تحبط كل المشاريع النيوكولونيالية في هذه الرقعة من العالم التي تعتبر ممرّا رئيسيّا بين الشرق والغرب ناهيك عن الثروات التي ترقد في باطن أرضها. هذا الإنزعاج هو نفسه ضدّ كلّ حركات التحرر في العالم وأمريكا اللاتينية خير مثال على ذلك. ثانيا، قضية التخيير والتسيير مسألة فقهية دينية تماما كقضية النقل والعقل ولا يمكن أن تكون مثالا يفسّر نظرية المؤامرة. فالإعتقاد بأنّ جيرانك يتآمرون عليك أقل خطورة من اعتقاد أنّ رئيس مخفر شرطة الحي يحكم بتفويض إلاهي لامحدود. وهنا يظهر كيف يعمل هؤلاء على تثبيت فكرة أنّنا دوما على خطأ وليس لدينا القدرة على التفكير والتمييز وأنّ الآخرون أكثر عقلانية منّا ودوما على حق.
يبدو أنّه في هذه المرحلة
، قد حذفت ميمري جزءا من حديث السيد الوزير حيث نجده فجأة يقول:
ليس عملا عظيما أن أركب طائرة مدنية وأضرب بناية. العمل العظيم هو أن أصنع طائرة وأن أبني مجمّع تجاري كما هو الحال في نيويورك.
بالطبع هو هنا يتكلم عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وهذه الجملة إن نزعت من سياقها فهي منطقية ولا غبار عليها. ففعلا ليس عملا عظيما أن تقتل الأبرياء ولكن العمل العظيم هو أن تنتج ما يضمن ويسهّل لهم الحياة. لكن عند ربطها بما قيل قبلها تفهم معنا مغاير لها.
"نحن لا نريد الإعتراف بأنّ العالم لا يتآمر علينا وإنّما نحن من يتآمر على أنفسنا (لأنّ حكامنا منّا) وهذا تراثنا يثبت اعتقادنا بالمؤامرات حتى إنّنا أصبحنا نتآمر على الآخرين (هجمات 11/9 شاهد على ذلك)". ملاحظة أخيرة حول هذه الجملة، كان
أحد أهداف عدوان 1956 على مصر هو تقليم أظافرها وهي التي أخذت في تلك السنوات في تركيز بنية تحتية لصناعات ثقيلة منها محرّكات الطائرات بمساعدة سوفياتية وقد كان للغرب ما أراد. لن يسمح الغرب لأيّ عربي بإمتلاك ناصية أيّة صناعة استراتيجية وهذا الأمر ليس جديدا.
في التعليق التالي، يقول السيد الوزير ما يلي:
للأسف كما حدث في ما يسمّى بالجهاد الأفغاني، عاد العرب إلى بلدانهم لتخريبها كالجزائر والسعودية وسوريا واليمن وغيرها. الآن يحدث نفس الشيء حيث يغرّر البعض بالشباب عبر فتاوى كاذبة ترسلهم لمحاربة الأمريكان في العراق. ومن يقدّم تلك الفتاوي على الفضائيات العربية [شيوخ] يعيشون حياة الرّفاه والهناء وأولادهم يدرسون في أحسن الجامعات ويذهبون بأولاد الفقراء والمسلمين للفلوجة وغير الفلوجة.
ما يريد أن يقوله الرجل هو "لا يجب أن نحارب القوات الأمريكية في العراق" وكحجّة يقدّم مثال الإرهاب الناتج عن مرحلة
ما بعد "الجهاد الأفغاني". هنا استعمل التضليل على مستويين لتمرير الفكرة. في المستوى الأوّل سكت عن قصد على حقيقة أنّ الولايات المتحدة هي من رعى الإسلاميين الأصوليين منذ البداية ووفّر لهم السّلاح والمال والمعلومات في مواجهة ما يسمّى بالخطر الأحمر. وبعد إنتهاء الحرب الباردة، إستغلّت المخابرات الأمريكية تلك الجماعات الأصوليّة لإحداث قلاقل في بلدان معيّنة لصالحها وذلك للضغط على الأنظمة "المارقة" هناك. ثم هل يستطيع السيد الوزير تفسير ما يلي (معلومات موثقة):"عندما أعلنت الإدارة الأمريكية إغلاق المجال الجوّي الأمريكي عقب هجمات 11/9 لم يسمح إلاّ لطائرتين مدنيتين بالإقلاع: طائرة الرئيس الأمريكي وطائرة شقيق بن لادن التي حملت كل عائلته إلى السعودية. لماذا هذا الإستثناء أم أنّ أسهم كارلايل أهمّ من الأمن القومي الأمريكي؟" و"تواردت تقارير عديدة من ضبّاط القوات المتعددة الجنسيات (غير الأمريكية) العاملة في أفغانستان تقول بأنّ بن لادن كان في مرماهم في عدّة مناسبات وفي كل مرّة تأتيهم الأوامر الأمريكية بالإنسحاب فورا من المكان! أليس بن لادن هو المطلوب الأوّل في مجزرة 11/9؟"
المستوى الثاني للتضليل هو لمّا سكت على حقيقة أ
نّ العوائل المالكة في الخليج بصفة عامّة والسّعودية بصفة خاصّة هي من كان يموّل ويحتضن ما يسمّى بالمقاتلين العرب في أفغانستان إبّان الإحتلال السوفياتي وأنّ الشيوخ الذين كانوا بالأمس يصدرون فتاوي الجهاد في أفغانستان ليسوا سوى "فقهاء السلطان" الذين كانوا ولازالوا يأتمرون بأوامر الحكام. هؤلاء أنفسهم الذين يُصدرون اليوم فتاوي "تحريم الجهاد في العراق". هل يجهل السيد الوزير كل هذه المعلومات؟ أشكّ في ذلك كثيرا.
ثم يقول السيد الوزير في التعليق الثالث ما يلي:
من دمّر العراق هو العراقي أوّلا، هو حاكم عربي مسلم (...). مشكلة العراق بدأت معنا نحن، مع حاكم عربي مسلم مستبد عاث في الأرض فسادا وشرّد وقتل شعبه (...) وكأنّ مشكلة العراق بدأت مع الأمريكان. يعني الأمور ليست بهذه الطريقة...
هنا يريد السيد الوزير الإيحاء بأنّ الولايات المتحدة ليست هي المسؤولة عن دمار العراق. أليس ما يقوله المحافظون الجدد هو أنّهم ذهبوا ليحرّروا العراق عسكريا فيما يسمّى بعمليّة "حرّية العراق"
؟ أو ليس من أدبيات "الليبراليين الجدد" جواز الإستعانة بقوات غازية لجلب الديمقراطية؟ ألا تلتقي هذه الأدبيات مع ما يسمّى "بحق التدخل العسكري لأسباب إنسانية" والذي تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن يصبح أحد مبادئ الأمم المتحدة؟ ألا يلتقي أيضا مع عقيدة الحرب الإستباقية لدى المحافظين الجدد؟ لن أستفيض في الحديث عن آثار التدخل الأمريكي في شؤون العراق كبلد منذ ثورة الخميني وحتى يوم الناس هذا فالدراسات والأرقام موجودة وموثّقة وفي متناول الجميع. ولكنّني سأركز على لفظتي "حاكم عربي مستبد" و"حاكم عربي مسلم".
لا شكّ في أنّ صدام حسين ككل الحكام العرب بداية من جمال عبد الناصر وحتى الجنرال الذي انقلب في الصيف الماضي على الحكومة الديمقراطية في موريتانيا، ديكتاتور مستبدّ لا يعرف سوى الحكم بالحديد والنار. لكن ألا يقتضي الواجب من السيد الوزير أن يسمّي الأمور بأسمائها عندما يتكلّم عن الإستبداد ويعلن صراحة أنّ حاكم الكويت لا شرعية له وكذلك آل سعود وكلّ الحكام العرب واحدا واحدا ويعدّد إنجازاتهم في سجون ومعتقلات بلدانهم؟ أم أن العبرة بالجمع؟ أليس من المنطق أن ينقد الأحوال في بلده قبل أن يتكلّم عن بلدان الآخرين؟ ثم لماذا هذا الإصرار على استعمال لفظة "حاكم عربي مسلم" حتى أنها تكررت مرتان في نفس الجملة. هل يريد القول بذلك بأن "إسلام" صدام حسين هو السبب في استبداده؟ وهل بذلك يصنّف حزب البعث العراقي الخارج من رحم الشيوعية إلى الإشتراكية القومية حزبا أصوليا إسلاميا؟ أم هو لعب ذكي على الكلمات يُراد به إلصاق تهمة الإستبداد بالإسلام؟ ولماذا الإصرار على أنّنا "نحن" السبب في ما يجري في العراق؟ هل العالم العربي متّحد وتحت سلطة إدارة واحدة و"نحن" لا نعلم؟ أم هو تأكيد آخر على أنّنا نحن سبب كل ما يحدث لنا وماما أمريكا زعيمة العالم الحرّ، بريئة براءة الذئب من دم يوسف عليه السّلام؟
يواصل الرجل تعليقه بكل ثقة ويقول:
الآن يقولون أنّ الأمريكان يريدون التدخل في السودان. (...) لأنّ هناك مشكلة حقيقية في السودان. نحن العرب ظليّنا نتفرّج على دارفور والسودان حتى مات مليوني شخص في حرب أهلية طاحنة. ولا أحد منا يهتم. والآن لمّا نزل الأمريكان، أصبحت قضية السودان مهمّة.
هل يجهل السيد الوزير أنّ تحرّش الولايات المتحدة بالسودان يعود إلى بدايات التسعينات لما قصف مصنع الشفاء للأد
وية وسُوّي بالأرض وقال الأمريكان بأنه منشأة للأسلحة الكيمياوية. في ذلك الوقت لم تكن الأعذار من قبيل "دعم الإرهاب" و"التدخل لأسباب إنسانية" قابلة للتسويق. أمّا الآن فقضيّة دارفور على بشاعتها، تتيح كل المزايدات السياسية الممكنة وحتى المحتملة؟ ثم هل يستطيع السيّد الوزير تفسير كل هذا التكالب بين الصين من جهة، الإتحاد الأوروبي من جهة أخرى والولايات المتحدة من جهة ثالثة على السودان؟ ألهذا الحدّ يشعر كل هؤلاء بالتعاطف والآسى تجاه ضحايا دارفور؟ لما لم يشعروا بالتعاطف إذن مع ضحايا القنابل العنقودية في جنوب لبنان والفسفور الأبيض في غزة؟ أم أنّ "الشهامة والإنسانية" أسهم لا يمكن تداولها إلاّ عندما يشتمّ الرجل الأبيض رائحة الذهب الأسود؟ وهل تشعر إسرائيل هي الأخرى بالتعاطف تجاه الضحايا لمّا تحالفت علنا مع حركة تحرير السودان الداعية لتقسيم السودان؟
في التعليق الآخير، يكرّر السيد الوزير نفس خطاب التعليق الأوّل حول نظريّة المؤامرة ومثال التخيير والتسيير ومسؤولية حكّامنا الحصرية بخصوص كل الكوارث التي تواجهنا. لاحظ هنا أن نفس المفردات تقريبا تتكرّر وهذا يعني أنّ خطابه ليس وليد تفكير حيني وتفاعل عفوي وإنّما هو خطاب معدّ سلفا بكلّ حججه. آخر فكرة في الشريط:
(...) المخرج هو أن نتوقّف عن تسييس كل شيء وأن نشتغل على مستوى الإقتصاد. (...) أن نتّفق على مشروع إقتصادي للنهضة. (...) ما هذه الأمّة التي لا تجمعها مصالح؟ (...) في أوروبا (...) تشابك مصالح. (...)
أثبت التاريخ أنه لا يوجد إقتصاد بلا سياسة. والإتحاد الأوروبي ما كان ليصل إلى ما وصل إليه من "الوحدة" الإقتصادية لولا السياسة. نسبة التبادل الإقتصادي البيني العربي لا تتجاوز 4% من التجارة الجملية العربية وهذا بسبب أقطاب خارجية ليس من مصلحتها فقدان سوق استهلاكي في البلدان العربية لصالح بلدان أخرى فما بالك أن تكون هذه البلدان عربية. لا يوجد إستقلال إقتصادي بدون إستقلال القرار السياسي. ومادام هذا الأخير مرهون بيد أطراف خارجية فلا سبيل لبناء إقتصادي موحد. ما يريده السيد الوزير وهذا واضح من خلال عبارة ([يجب] أن نتوقّف عن تسييس كل شيء)، هو أن يصبح رجل الشارع غير مهتم بالسياسة وهذا معناه تخدير الوعي السياسي الشعبي وتعطيل إدراك المجموعة ممّا يسهّل بعد ذلك التأثير في الرأي العام وتوجيهه. أليس ذلك هو هدف بروبغندا المحافظين الجدد أصلا؟
كخلاصة، نلاحظ أنّ خطاب أكثر رموز الطابور الخامس يكرّر ويُعيد إنتاج نفس الأفكار والحجج. وكما ورد في تعاليق السّيد الرّبعي فه
ذه الأفكار تتراوح في أغلبها ما بين الإمعان في جلد الذات وتقديس الآخر حتى الذوبان. تختلف الشخوص ونسمع دائما نفس الجعجعة:
  • نحن المخطئون والآخرون هم المحقّون. نحن لا نفكر والآخرون يفكرون. نحن سيّئون وأشرار والآخرون أخيار.
  • نحن نبحث عن الحلول السّهلة وعن شمّاعات نعلّق عليها أخطائنا باتّهام الآخرين.
  • يكمن خطئنا الأكبر فينا وفي تراثنا وعقيدتنا وثقافتنا.
  • ولنتجاوز كلّ مشاكلنا لابد من الديمقراطية الأمريكية ولا بأس إن إحتلّونا لبضعة سنوات فنحن لا نصلح لعمل شيء فلعلّهم يقدرون على تعليمنا شيئا مفيدا. بل يجب أن نشكرهم على ذلك فبدون دبّاباتهم وثقافتهم نفقد إنسانيتنا.
خطاب ببساطة محبط يدفع إلى الهزيمة النفسية ويهدف إلى ضرب ثقة المواطن العربي البسيط في نفسه وإمكانياته وتراثه وحضارته ويدعوه لقبول "هزيمته" كأمر واقع لعلّه يظفر ببعض مقوّمات الحياة.
وهكذا ينتصر العدو
ويبقى الطابور الخامس كالبنيان المرصوص...

كتبت هذا النص: عبرات، ألم و أمل في الخميس، مارس 12، 2009
التسميات: | edit post

2 تعليقات

  1. Tarek طارق يقول:
  2. للإشارة الربعي كان في الأصل يساري و قومي من النوع الراديكالي أيضا بل كان عضوا حركيا في المقاومة الفلسطينية في الأردن...
    http://www.aljareeda.com/aljarida/ArticlePrint.aspx?id=86843
    مجرد حالة أخرى في هذا النوع المسى بـ"الليبراليين العرب الجدد" من الانتقال من حالة إلي حالتها المناقضة تماما

     
  3. أخ طارق:
    شكرا على الرابط.
    لقد قرأت بخصوص كتاب "وداعا يا أحمد" للإعلامي يوسف عبدالحميد الجاسم. وعلمت أن الربعي كان يساريا وقوميا راديكاليا. الحقيقة، الإنقلابات بمائة وثمانين درجة من هذا النوع هي في حد ذاتها محور تساؤلات عديدة. هذا شبيه بمقولة "إن زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده".
    الإنتقال من الدفاع بشراسة عن "القومية والأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة" إلى "الليبرالية الجديدة" التي ترى في الإنبطاح للغرب والتخلي عن الهوية والذات الوسيلة المثلى للنهضة أمر صعب تفسيره عموما.
    ما لاحظته خلال بحثي هو أن هذا الإنقلاب قد حدث مع الكثير من الليبراليين الجدد بنفس الطريقة تقريبا. فسره البعض بإحساس هؤلاء بإفلاس تياراتهم الفكرية والسياسية وإحباطهم من عدم قدرتهم على التأثير لذلك انخرطوا في "الليبرالية الجديدة" ليجدوا لهم مكانا "تحت الأضواء". قد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما خصوصا بالنظر لنرجسية البعض منهم.
    سأعود إن شاء الله للمزيد من الأمثلة في هذا الشأن.
    شكرا لمرورك ومرحبا بك دوما.

     

الحرب الإفتراضية على الإسلاموفوبيا

وكالة أنباء الحرافيش


حرب الحرافيش على شهر رمضان المعظّم: حرفوش برلين الملقّب ب"الفنان" يشوّه مقالا مسروقا ليدعم ما يقول عنه أنّ "فريضة الصيام تزيد في ارتكاب الجرائم لدى المسلمين" | محبوبة غايت: الحرفوش الجنّي يعلن النصر من طرف واحد على من وصفهم بالأطراف الظلامية وأعداء الحياة | جبهة الإعتلال: إختلاق أخبار تقول بإمكانية العودة إلى نظام تعدد الزوجات في بلد الياسمين | حملة الحرافيش على الحجاب: الحرفوش الغبيّ ينشر رسالة منقولة عن أحد رموز الصف الثاني للطابور الخامس تحذّر من انتشار الحجاب على الشواطىء ويطالب بمنع ما وصفته الرسالة بزيّ البؤس والحزن والموت ورمز الفراغ والقبح والتوحّش | مواقف الحرافيش: الحرفوش الفيّاش يصدر بيانا يدين فيه من أسماهم بجماعة "عمّار الأخضر" ويطالبهم بالإعتراف ببطولاته وأمجاده في الدفاع عمّا وصفه بحرّية التعبير ويذكر أنّ هذا البيان قد لاقى صدى واسعا لدى الحرافيش وجبهة الإعتلال حيث أعلن عدد كبير منهم دعمهم لما جاء في البيان ولحرّية الفيّاش الفكرية | إعلانات متفرّقة - شراء: أعلن الحرفوش الهالك عن صدور كتاب له ودعى كل المدوّنين إلى شرائه عبر النت | إعلانات متفرّقة - كراء: أعلن حرفوش برلين عن بتّة عموميّة لكراء عقار على ملكه كان يستغلّه كمصبّ للفضلات | شؤون المرأة: أصدر الحرفوش الغبيّ بيانا موقّع من طرف جماعة غير معروفة يعلن فيه كفره وتمرّده على ما أسماه ب"دولة الذكور" | أدب الحرافيش: حرفوش التراث يصدر معلّقة بذيئة في هجاء "مدوّني البترودولار"

مدوّنتنا على الفايسبوك

زوّارنا