تذكّرت وأنا أشاهد هذا الشريط الوثائقي الأطروحات "الإصلاحيّة والثوريّة" التي يروّج لها "اللّيبراليّون الجدد". غادرت عينا عقلي شاشة الحاسوب بينما بقيت عينا رأسي متسمّرتان تحدّقان فيها. أخذت ذاكرتي تعمل بأقصى طاقتها بحثا وتنقيبا في كلّ المقالات التي قرأتها سابقا وتمجّد احتلال رعاة البقر للعراق، عفوا -وليسامحني الرّب نيتشه على زلّة لساني التي لا تغتفر- أقصد تحرير رعاة الحرّية للعراق. ولأنّ عقلي "إرتكاسي بدائي همجيّ يرزح تحت سلطة عقيدة فاسدة غير إنسانيّة، رجعيّة، متخلّفة، متسلّطة، عنيفة ودمويّة" فإنّه سريعا ما أثبت عجزه عن استعراض كل المقالات والكتب التي كتبها الكثيرون من رموز "الليبراليّة الجديدة" وجهابذة الطابور الخامس في بلدان العربان السذّج، التي تمجّد حرّية اليورانيوم المنضّب وديمقراطيّة الفسفور الأبيض!
قضّيت دقائق طويلة وأنا أحاول أن أبحث في كلّ هذا الكمّ الهائل من الكتابات التي نشرتها إيلاف، العرب تايمز، شفّاف الشرق الأوسط، الأوان، الحوار المتمدّن، رابطة العقلانيين العرب، إلخ، عن إجابة لسؤال واحد أبى أن يغادر ذهني رغم كلّ محاولاتي لطرده. سؤال مشاكس وعنيد لم يلبث أن يستحيل إلى طوفان من الأسئلة التي تتوالد بسرعة غريبة: هل بلغت الإنسانيّة والإلتزام الأخلاقي بالمبادئ الكونيّة هذا الحدّ كي يسارع المحافظون الجدد بهذا الشكل لنشر الديمقراطيّة والحرّية في العراق؟ شيء "عجيب" أن تعمل الإدارة الأمريكيّة على مختلف مستوياتها الديبلوماسيّة، العسكريّة والسياسيّة بكلّ هذا الجهد المحموم لإجهاض أيّ حل ديبلوماسي / سياسي لأزمة أسلحة الغباء الشامل التي يمتلكها العراق! كيف لا والهدف هو تحرير العراق وتصدير الديمقراطيّة الإنسانيّة النبيلة إليه؟!
بحثت طويلا وأعدت الكرّة مرّات عديدة بلا جدوى عن بعض من إجابة في هذه المقالات التي تسبّح بحمد الديمقراطيّة الإنسانيّة النبيلة الغربيّة وتمجّد رعاة الحرّية والسلام والقيم الكونيّة وتدعوهم لمحاربة "الإرهاب والظلاميّة والإستبداد و.. و.." في صلوات صحفيّة وأوردة بلاغيّة فاقت في تكلّفها ونفاقها كلّ مدائح أبو نواس ونظرائه من شعراء عصره. توقّفت قليلا عند إحدى أيقونات الطابور الخامس الحيّة: شاكر النابلسي، الليبرالي الأردني الجديد الذي كان سابقا ماركسيا حتى النخاع (سبحان مغيّر الأحوال!!!). توقّفت عنده أكثر من غيره ربّما لأنّه الأكثر حضورا في ذهني هذه الأيّام باعتبار بحوثي المتواصلة حول "الليبراليّة الجديدة" وربّما كذلك لمدى وضوح أطروحاته المتحيّزة وبشكل جليّ وصريح لسياسة الولايات المتّحدة وإسرائيل.
نتائج احتلال رعاة البقر للعراق لا يمكن حصرها في تدوينة أو مقال أو حتى كتاب. وبقطع النظر عن مدى غباء حكّام العراق وشعبه ودور ذلك في هذا الإحتلال الجائر، فإنّ أكثر من مليوني شخص قضوا بشكل مباشر بسبب الإحتلال (فضلا عن هؤلاء الذين قضوا عبر الإرهاب والعنف الطائفي). وهُجّر في فترة الحرب ما يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة وفقدت البلاد كوادرها التي اغتيلت أو هاجرت حيث يفتقد البلد الذي كان في وقت ما الأكثر تقدّما على المستوى العلمي والمعرفي في كامل العالم العربي والإسلامي، لأبسط المهارات في كل الميادين بما فيها القطاعات الأكثر إلحاحا: التعليم والصحّة والإدارة. ولا تسأل عن البنية التحتيّة لبلد كان الأفضل فيما مضى على هذا الصعيد عربيا وحتى دوليا، فإنّ الكثيرين من السياسيّين وجنرالات الجيش الأمريكيّين كثيرا ما تفاخروا بإرجاعهم العراق للعهد الحجري!
والحال هكذا، تجد شاكر النابلسي يكتب لتبييض صورة الديمقراطية الأمريكيّة -التي أمرت بتعذيب المقاتلين الأجانب- عندما انفجرت فضيحة سجن "أبو غريب" ويقول:
والحال هكذا، تجد شاكر النابلسي يكتب لتبييض صورة الديمقراطية الأمريكيّة -التي أمرت بتعذيب المقاتلين الأجانب- عندما انفجرت فضيحة سجن "أبو غريب" ويقول:
لولا الديمقراطية التي يتمتع بها المجتمع الغربي عامة، لما جرؤ جندي امريكي على تصوير من جرى من فظائع، ولما جرؤ صحافي امريكي أو صحيفة امريكية على نشر ما ارتكب من آثام في سجن "أبو غريب". فالديكتاتورية هي التي بنت سجن "أبو غريب" ليس كمبنى، ولكن رمزاً للتعذيب الوحشي الذي مارستة الديكتاتورية الصدامية المنهارة. والديمقراطية وحدها هي التي اتاحت فضح جرائم "أبو غريب" وسوف تهدمه غداً وتهدم معه هذه التاريخ الأسود. والديمقراطية وحدها هي التي سمحت للصحافة الغربية بنشر الآ ن ما تم نشره من صور أليمة.
والديمقراطية وحدها هي التي دفعت رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم للاعتذار المباشر وغير المباشر عن هذا العمل الشنيع علماً بأنه ارتكب في حق أعداء الديمقراطية وأعداء التقدم وأعداء الحرية في العراق (...)
ويقول في مقال آخر صدر بمناسبة تدمير مدينة الفلوجة وفرش أرضها ببقايا القنابل العنقودية والفسفور الأبيض وذخائر اليورانيوم المنضّب [بينما تحرّم كل القوانين الدولية استعمال مثل هذه الذخائر في المناطق الآهلة بالسّكان]:
صباح الخير يا فلّوجة
صباح الخير يا مقبرة الارهابيين
صباح الخير يا عدّامة المقاولين المرتزقة
صباح الحرية والآمان
صباح الخير والنماء
صباح الحب والرخاء
عندما انفلج صباح الحرية في الفلّوجة أمس، وتحررت الفلّوجة من حكم طالبان العراقي كما تحررت بالأمس كابول من حكم طالبان الأفغاني وهو حكم القرون الوسطى، لم نكن نتصور أبداً أن حكم طالبان العراقي يريد للفلّوجة الحمامة البيضاء أن تصبح "كابول القرون الوسطى" التي كانت تحت حكم طالبان الظلامي. (...) فتبارك الله الذي أرسل للبشرية رسل الحرية وجنود الحرية.
وبعدما دمّر بوش وجنوده الفلوجة وقتلوا الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، لم يتردّد هذا "العقل الإصلاحي التنويري" -أو هكذا يصف نفسه ورفاقه- في توجيه رسالة تهنئة لجورج بوش عندما أعيد انتخابه سنة 2004، حيث يقول:
مبروك للرئيس جورج بوش هذا النجاح الساحق في الانتخابات الرئاسية. ومبروك للحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الكونجرس بمجلسيه: النواب والشيوخ. وهذه أول مرة في تاريخ امريكا يحقق الحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الرئاسة وفي الكونجرس معاً.
وهذا النجاح الساحق هو نجاح للسياسة الأمريكية الخارجية وخاصة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وأفغانستان ومحاربة الارهاب.
لقد انتخب الشعب الأمريكي (أكثر من مائة مليون ناخب) رئيس الحرية الانسانية الذي حرر العراق، وحرر أفغانستان، ووعد بقيام دولة فلسطيبنية في العام القادم 2005 وهو ابن محرر الكويت من قبل.
(...)
أن الرئيس جورج بوش أعطى للعرب من الفرص والمبادرات والأفعال السياسية ما لم يعطه أي رئيس امريكي سابق. فهو الذي أعلن تعهد بقيام دولة فلسطينية في عام 2005 وكان على العرب الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه لكي يحقق ما وعد به، شرط أن يكون السياسيون العرب على مستوى المسؤولية لمثل هذا الوعد. وهو الذي حرر افغانستان من حكم القرون الوسطى المتخلفة، وأقام نظاماً سياسياً فيها،كانت أبرز مظاهره الانتخابات الأفغانية الحرة لأول مرة في أكتوبر 2004. وهو الذي حرر العراق من طغيان واستبداد الديكتاتورية، ولم يكن العراق وحده بمستطيع ذلك ولو امتدت به السنون. وهو الذي يجهز العراق الآن لانتخابات حرة في مطلع 2005 . وهو الذي يحارب الارهاب حرباً لا هوادة فيها في الشرق الأوسط دفاعاً عن مصالح أمريكا، وعن مصالح دول الخليج كذلك. وهو الذي سيحاول في ولايته الثانية نزع أسلحة الدمار الشامل من إيران وكوريا الشمالية كما فعل في العراق وليبيا. وهذه كلها انجازات في الشرق الأوسط لم يفعل مثيلاً لها أي رئيس أمريكي سابق.
ولو كان العرب الأمريكيون منصفين وعقلاء لا يتبعون الغوغاء الأمريكية التي تكره بوش لشخصه، لكونه من أبناء الدماء الزرقاء، وابن عائلة غنية ارستقراطية، وابن رئيس جمهورية سابق، وشقيق حاكم ولاية كبيرة كفلوريدا، وخطيب عيي لا يُجيد الكلام، ومحافظ في الدين والأخلاق والسلوك.. الخ. لو كان العرب الأمريكيون منصفين لانتخبوا بوش لا كيرى، لأن التاريخ الأمريكي يقول بأن الديمقراطيين منذ عهد ايزنهاور إلى الآن، لم يقدموا للعرب ربع ما قدمه الرؤساء الجمهوريون، وعلى رأسهم جورج بوش الأب والأبن، رغم أنني لست جمهورياً ولا ديمقراطياً.
ويقول في موقع آخر تمجيدا للإستعمار وتعديدا لفضائله بعدما قدّم موشّحا شرقيا ناعما في مدح الديمقراطيّة الأمريكيّة / الإسرائيليّة النموذجيّة:
لماذا لا نقول للغرب أهلاً بك في نظامك المؤسساتي الدستوري، ونريد منكم خبراء في كيفية تطبيق الاستحقاق الديمقراطي، لأن لا دستور بدون قناعة بآلية التطبيق. فدساتيرنا العربية هي مقتطفات واسعة المساحة من الدساتير الغربية، وهي من صنع الاستعمار ومن فضائلة الكثيرة علينا (...)
وكما يقال "آخر الطب الكيّ"، هاهو يقدّم المبادىء التي تقوم عليها "الليبراليّة الجديدة" الساعية لإصلاح حال الشعوب العربيّة عبر الفكر "العقلاني التنويري" فيقول:
20- عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، في ظل عجز النخب الداخلية والأحزاب الهشة عن دحر تلك الديكتاتورية وتطبيق تلك الديمقراطية. وهذه ليست سوابق تاريخية فقد استعانت أوروبا بأمريكا لدحر النازية والفاشية العسكرتاريا اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وقامت أمريكا بتحرير أوروبا، كما قامت بتحرير الكويت والعراق.
21- لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج، ولكن بالطرق الديبلوماسية، والمهم أن يأتي سواء أتى على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية. وقد سبق للفيلسوف العربي القديم (الكندي) أن قال بأن "علينا أن نأخذ الحقيقة من أي كان سواء كان مشاركاً لنا في الملّة أو لا". (...)
23- الايمان بالتطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء، (...) وأن التطبيع والتلاقح بين الشعوب والثقافات هو الطريق إلى السلام الدائم في الشرق الأوسط.
إنّني على قناعة بأنّنا بلغنا فعلا أسوأ الأزمان وهي أن تجد من أعدائك من يشفقون عليك بينما أهلك وخلاّنك يشمتون فيك ... وفي أنفسهم! فهل ثمّة ماهو أسوأ من هذا الزمن العفن المرير؟ صدقا، لا أعرف أو ربّما لا أريد أن أعرف!
خارج النص (ومن وحي الأحداث): يبدو أنّ رحلة العربان السذّج على طريق الغباء والمذلّة لا تزال طويلة جدًّا، فبعد عملية الجيش الأمريكي التي قصف فيها جنود أوباما مدنيّين أفغان عزّل وأوقعوا المئات بين قتلى وجرحى، هاهم اليوم يقفون لتحيّته ويضربون الدفّ ويطلقون الزغاريد فرحا "بخطابه التاريخي". فهنيئا لكم مسيحكم المخلّص يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم!
صدقت يا سيّدي فنحن في أمسّ الحاجة "لتطليع شعب جديد"!
هههه شعب واحد شوية، يلزمنا زوز و إلا ثلاثة على الأقل. زيد فمّا مقطع أخر في نفس المسرحية، قالك كلّم ولد عمو في فرنسا و قالو إيجا عدّي الحرب في تونس فمّة برشة جو.
هو صحيح كل ما تاكل بعضها في الشرق، يدور الجو في تونس، مضاهرات، مسيرات، تنديد، حكايات، شريط الأنباء يولّي فيه ما تتفرج، ربّي يخلّيلنا الشرقيين و مشاكلهم :)))
أهلا سفيان:
نحن في حاجة لشعب واحد "مطلّع تطليع حسب مواصفات معيّنة وكان لزم كرّاس شروط"!