قاربت الساعة العاشرة صباحا. كنت جالسة في قاعة الإنتظار لجرّاح عيون نصحتني إحدى صديقاتي بالذهاب إليه لمّا سألتها إن كانت تعرف طبيب عيون جيّد. فقد غادرت البلد منذ سنين طوال وغابت عنّي تطوّرات حياته اليوميّة رغم أنّ حبّه لم يفارق قلبي ولو لطرفة عين. كنت منغمسة في رواية "البؤساء" للرّائع فيكتور هيغو. كنت قد قرأت هذه الرواية منذ ما يزيد عن العشر سنوات. ولكنّني وأنا أستعدّ للخروج هذا الصباح تذكرت بأنّني أنهيت البارحة قراءة آخر كتاب من الكتب التي جلبتها معي من بلاد الغربة. فتوجّهت لمكتبة العائلة التي أسّسها والدي رحمه الله وأثّثناها جميعنا بغاية التزوّد بشيء ما يروي بعضا من جوعي الفكري وعطشي المعرفي المزمن خلال هذا اليوم. وقع بصري على رواية "البؤساء" فتذكّرت السيد جون فالجان وشعرت بالرغبة في الغوص مجدّدا في أبعاد تلك الشخصيّة المميّزة. وضعت الرواية في حقيبة يدي وغادرت.
اقتلعتني من بين صفحات الرواية أصوات غريبة يبدو أنّها تصدر من الطابق الأرضي للعمارة. تجاهلتها في بداية الأمر ولكنّني سريعا ما فقدت التركيز خصوصا وأنّ الأصوات أخذت تشتدّ أكثر فأكثر. سألت كاتبة الطبيب عن مصدر الإزعاج فمطّت شفتيها بازدراء شديد وقالت: "لقد كانت العمارة هادئة جدا ولكن منذ مدّة احتلّ الطابق الأرضي حزب سياسي...". سكتت قليلا وأضافت بقلق واضح: "إنّهم يقضون اليوم بكامله في إلقاء الخطب والصياح من الصباح إلى المساء! والكثير من مرضانا بدأوا ينزعجون. إنْنا نفكّر جدّيا في الانتقال إلى مكان آخر". أحجمت على التعليق على كلامها وحاولت الانغماس مجدّدا في صفحات "البؤساء". لكن صوت مُلقي الخطاب القريب جدّا من الصياح منه إلى الخطاب السياسي الهادئ وموجات التصفيق المتقطّعة والهتافات من حين لآخر منعوني مجدّدا من مواصلة القراءة. أصخْت السمع قليلا فسمعت حديثا عن الليبرالية الجديدة والديمقراطيّة والحرّية الجنسيّة وأشياء أخرى كثيرة. سمعت أيضا كلاما عن إسرائيل والإرهاب وحرّية العقيدة وغباء الأمّة. أثار ذلك فضولي بشدّة. وكلّما مرّت الدقائق واستمعت للمزيد من كلام الخطيب كلّما ازدادت رغبتي في التعرّف على هذا الحزب عن قرب. نظرت إلى الجالسين في قاعة الانتظار فوجدتهم كثر ففهمت أنّه مازال أمامي على الأقلّ ساعة من الزمن قبل أن يصل دوري. لذلك قرّرت الخروج لاستنشاق بعض الهواء وإرضاء بعض من الفضول المستعر في نفسي حول هذا الحزب الغريب. همست لكاتبة الطبيب بأنّني سأخرج لبعض الوقت وسأعود عمّا قريب وغادرت المكان.
انفتح باب المصعد في الطابق الأرضي فصمّت أذناي أصوات الخطبة التي يبدو أنّها آتية من مصدح وُضع في مكان ما لم أتبيّنه، في بهو الطابق الأرضي. نظرت إلى يميني فرأيت معلّقة قد كتب عليها بألوان زاهية "حزب الديك - نضال أزليّ من أجل دولة جنسيّة ملحدة - مرحبا بكم إلى محاضرة الزعيم القائد حرفوش باشا الزّنباوي" ورسم تحت ذلك سهم يشير إلى ممرّ واسع. كدت أنفجر ضاحكة لمّا قرأت تلك العبارات. ولا أعرف كيف سرت في ذلك الممرّ الفخم الذي يشير إليه السهم والذي تزيّنه لوحات زيتيّة على اليمين وعلى الشمال. لوحات تعرض صورا فحميّة لشخصيات تاريخية كثيرة من بينهم نيتشه وفرويد وداروين وجون بول سارتر. أعترف أنّ تلك المجموعة من الصور بديعة بحقّ. ويبدو جليّا أنّ صاحبها قد دفع فيها الكثير من الأموال. لكنّني لم أتفاجأ كثيرا لذلك لأنّ فخامة المكان تدلّ على غنى واضح إن لم أقل فاحش لأصحابه. انتهى بي المسير إلى باب كبير من الخشب الرفيع يقف في حراسته رجلان يذكّرانني برجال العصابات في الأفلام التجارية المصرية. يلبس كل منهما زيّا أسود ويضع على عينيه نظارات سوداء كتلك التي يضعها بطل فيلم ماتريكس، ويعقد ذراعيه أمام صدره. للحظة فكّرت بالعودة من حيث جئت ولكن أحدهما قطع حبل أفكاري بقوله بخشونة حاول أن يضفي عليها مزيجا من الحدّة والديبلوماسية في آن واحد: "مرحبا... إلى أين؟". ذكّرتني هذه الطريقة بالأمن السرّي لجمهوريّات الموز الرّهيبة. أجبت بهدوء "مرحبا... أريد الدخول إلى المحاضرة". فردّ بنفس اللّهجة "بطاقتك الحزبية؟".دفعت إليه ببطاقة هويّتي وأنا أقول: "لقد انخرطت منذ مدّة ولم يرسلوا إليّ بطاقتي بعد". لا أعرف أي شيطان قد وسوس إليّ بتلك الإجابة. أعاد لي بطاقة هويّتي وفتح الباب وهو يقول "تفضّلي بالدخول". قمت بمجهود جبّار لإخفاء دهشتي وضحكة صارعت البرود المصطنع الذي حاولت رسمه على قسماتي. فلم أتصوّر فعلا أنّ حيلتي تلك ستنطلي عليه وعلى زميله بتلك السّهولة.
تجاوزت عتبة الباب فوجدت نفسي داخل قاعة كبيرة جدّا وفخمة جدّا جدّا. قاعة أفخم من أعرق قاعات الأوبرا الغربيّة وأكبر من صالات المؤتمرات التي دخلتها سابقا جميعها. قاعة مجهزّة بكل ما يحتاجه المؤتمرون من شاشات عرض عملاقة ونظامي إضاءة وصوت في غاية التقدّم. أجَلْت بصري في القاعة التي يؤمّها عدد كبير من الأشخاص لا أعرف من أين جاؤوا ولا متى وكيف دخلوا إلى هذا المكان. أينما تولّي وجهك ترى يافطات عملاقة على كل المساحات غير المستعملة من الجدران المغلّفة بطبقة عازلة للصوت. فهذه يافطة عملاقة تحمل صورة امرأة شبه عارية وقد كتب تحتها "الدورة الخامسة لمهرجان حزب الديك للعُرْي الفنّي" وغير بعيد عنها صورة عملاقة لرجال ونساء في وضعية ساخنة وقد كتب عليها "لذّتك هي سرّ وجودك، أطلق العنان لحواسّك وتمتّع بجسدك". وغير بعيد عنها علّقت صورة أخرى قسمت لنصفين. يظهر الشّق الأوّل صورة بالأسود والأبيض لإمرأة محجّبة وقد كُتب تحتها بخطّ قاتم ركيك "دنيا الموت". أمّا الشّق الثاني فيُصوّر امرأة حسناء بملابس البحر، تُعيد إلى مخيّلتي صور الإعلانات التي تُنشر في المجلاّت. صورة زاهية وحالمة ومثيرة وقد كُتب تحتها بخطّ ذهبي جميل "دنيا الحياة". تقدّمت قليلا فصادفتني مجموعة جديدة من اليافطات والصوّر، تصوّر إحداها عقلا بشريا في حالة تحللّ وقد كتب تحته بخطّ عريض "احذروا الإسلام، إنّه سرطان العقول!". بينما تصوّر يافطة أخرى دبّابة ضخمة وهي تطلق النار على رجل ملثّم. توقّفت عند هذه الصورة قليلا. كانت تحمل في خلفيتها صورة علم يحمل نجمة سداسيّة، علم أعرفه بشكل جيّد، علم كيان لقيط يُقال أنّه دولة شرعيّة. بينما كُتب تحت الصورة بوضوح "قاوموا الارهاب، ادعموا إخوانكم" وذُيّلت اليافطة برقم يبدو أنّه لحساب بنكي مع كلمة "تبرّعوا لدعم الحرّية والديمقراطيّة".
اجتاحتني أفكار عدّة فوقفت أتأمّل تلك الصور واليافطات إلى أن انتبهت للحاضرين وقد وقفوا جميعا وأخذوا في التصفيق بشكل محموم. استدرت إلى حيث المنصّة التي يتحدّث منها الخطيب. تطلّعت إليه من بعيد فبدا لي رجلا قصيرا، بدينا وأصلع الرأس. نظرت إلى أقرب شاشة إليّ لأتبيّن ملامحه. كان وجهه مستطيلا ومترهّلا رغم أنّه يبدو كهلا أخاله قد جاوز الثلاثين بسنوات قليلة لا غير. أثارت استغرابي نظرته العدوانية والحادّة التي تبيّنتها من تحت نظّاراته السميكة. فجأة رفع يده بتحيّة تمزج بين التحيّة النازيّة المعروفة والتحيّة الشيطانية التي يُثنى فيها الوسطى والخنصر وتُطلق بقيّة الأصابع. وقف الجميع ورفعوا أذرعتهم وأيديهم بنفس التحيّة. وغير بعيد عن المنصّة انطلقت فرقة من الفتيات اللاّبسات لتنانير قصيرة جدّا وقد برزت نهودهنّ بشكل لافت، يتقدّمهنّ مغنًّ يبدو وكأنّه جيم جاونز في زمانه، في عزف موسيقى ما يبدو أنّه نشيد الحزب الرّسمي!
انفتح باب المصعد في الطابق الأرضي فصمّت أذناي أصوات الخطبة التي يبدو أنّها آتية من مصدح وُضع في مكان ما لم أتبيّنه، في بهو الطابق الأرضي. نظرت إلى يميني فرأيت معلّقة قد كتب عليها بألوان زاهية "حزب الديك - نضال أزليّ من أجل دولة جنسيّة ملحدة - مرحبا بكم إلى محاضرة الزعيم القائد حرفوش باشا الزّنباوي" ورسم تحت ذلك سهم يشير إلى ممرّ واسع. كدت أنفجر ضاحكة لمّا قرأت تلك العبارات. ولا أعرف كيف سرت في ذلك الممرّ الفخم الذي يشير إليه السهم والذي تزيّنه لوحات زيتيّة على اليمين وعلى الشمال. لوحات تعرض صورا فحميّة لشخصيات تاريخية كثيرة من بينهم نيتشه وفرويد وداروين وجون بول سارتر. أعترف أنّ تلك المجموعة من الصور بديعة بحقّ. ويبدو جليّا أنّ صاحبها قد دفع فيها الكثير من الأموال. لكنّني لم أتفاجأ كثيرا لذلك لأنّ فخامة المكان تدلّ على غنى واضح إن لم أقل فاحش لأصحابه. انتهى بي المسير إلى باب كبير من الخشب الرفيع يقف في حراسته رجلان يذكّرانني برجال العصابات في الأفلام التجارية المصرية. يلبس كل منهما زيّا أسود ويضع على عينيه نظارات سوداء كتلك التي يضعها بطل فيلم ماتريكس، ويعقد ذراعيه أمام صدره. للحظة فكّرت بالعودة من حيث جئت ولكن أحدهما قطع حبل أفكاري بقوله بخشونة حاول أن يضفي عليها مزيجا من الحدّة والديبلوماسية في آن واحد: "مرحبا... إلى أين؟". ذكّرتني هذه الطريقة بالأمن السرّي لجمهوريّات الموز الرّهيبة. أجبت بهدوء "مرحبا... أريد الدخول إلى المحاضرة". فردّ بنفس اللّهجة "بطاقتك الحزبية؟".دفعت إليه ببطاقة هويّتي وأنا أقول: "لقد انخرطت منذ مدّة ولم يرسلوا إليّ بطاقتي بعد". لا أعرف أي شيطان قد وسوس إليّ بتلك الإجابة. أعاد لي بطاقة هويّتي وفتح الباب وهو يقول "تفضّلي بالدخول". قمت بمجهود جبّار لإخفاء دهشتي وضحكة صارعت البرود المصطنع الذي حاولت رسمه على قسماتي. فلم أتصوّر فعلا أنّ حيلتي تلك ستنطلي عليه وعلى زميله بتلك السّهولة.
تجاوزت عتبة الباب فوجدت نفسي داخل قاعة كبيرة جدّا وفخمة جدّا جدّا. قاعة أفخم من أعرق قاعات الأوبرا الغربيّة وأكبر من صالات المؤتمرات التي دخلتها سابقا جميعها. قاعة مجهزّة بكل ما يحتاجه المؤتمرون من شاشات عرض عملاقة ونظامي إضاءة وصوت في غاية التقدّم. أجَلْت بصري في القاعة التي يؤمّها عدد كبير من الأشخاص لا أعرف من أين جاؤوا ولا متى وكيف دخلوا إلى هذا المكان. أينما تولّي وجهك ترى يافطات عملاقة على كل المساحات غير المستعملة من الجدران المغلّفة بطبقة عازلة للصوت. فهذه يافطة عملاقة تحمل صورة امرأة شبه عارية وقد كتب تحتها "الدورة الخامسة لمهرجان حزب الديك للعُرْي الفنّي" وغير بعيد عنها صورة عملاقة لرجال ونساء في وضعية ساخنة وقد كتب عليها "لذّتك هي سرّ وجودك، أطلق العنان لحواسّك وتمتّع بجسدك". وغير بعيد عنها علّقت صورة أخرى قسمت لنصفين. يظهر الشّق الأوّل صورة بالأسود والأبيض لإمرأة محجّبة وقد كُتب تحتها بخطّ قاتم ركيك "دنيا الموت". أمّا الشّق الثاني فيُصوّر امرأة حسناء بملابس البحر، تُعيد إلى مخيّلتي صور الإعلانات التي تُنشر في المجلاّت. صورة زاهية وحالمة ومثيرة وقد كُتب تحتها بخطّ ذهبي جميل "دنيا الحياة". تقدّمت قليلا فصادفتني مجموعة جديدة من اليافطات والصوّر، تصوّر إحداها عقلا بشريا في حالة تحللّ وقد كتب تحته بخطّ عريض "احذروا الإسلام، إنّه سرطان العقول!". بينما تصوّر يافطة أخرى دبّابة ضخمة وهي تطلق النار على رجل ملثّم. توقّفت عند هذه الصورة قليلا. كانت تحمل في خلفيتها صورة علم يحمل نجمة سداسيّة، علم أعرفه بشكل جيّد، علم كيان لقيط يُقال أنّه دولة شرعيّة. بينما كُتب تحت الصورة بوضوح "قاوموا الارهاب، ادعموا إخوانكم" وذُيّلت اليافطة برقم يبدو أنّه لحساب بنكي مع كلمة "تبرّعوا لدعم الحرّية والديمقراطيّة".
اجتاحتني أفكار عدّة فوقفت أتأمّل تلك الصور واليافطات إلى أن انتبهت للحاضرين وقد وقفوا جميعا وأخذوا في التصفيق بشكل محموم. استدرت إلى حيث المنصّة التي يتحدّث منها الخطيب. تطلّعت إليه من بعيد فبدا لي رجلا قصيرا، بدينا وأصلع الرأس. نظرت إلى أقرب شاشة إليّ لأتبيّن ملامحه. كان وجهه مستطيلا ومترهّلا رغم أنّه يبدو كهلا أخاله قد جاوز الثلاثين بسنوات قليلة لا غير. أثارت استغرابي نظرته العدوانية والحادّة التي تبيّنتها من تحت نظّاراته السميكة. فجأة رفع يده بتحيّة تمزج بين التحيّة النازيّة المعروفة والتحيّة الشيطانية التي يُثنى فيها الوسطى والخنصر وتُطلق بقيّة الأصابع. وقف الجميع ورفعوا أذرعتهم وأيديهم بنفس التحيّة. وغير بعيد عن المنصّة انطلقت فرقة من الفتيات اللاّبسات لتنانير قصيرة جدّا وقد برزت نهودهنّ بشكل لافت، يتقدّمهنّ مغنًّ يبدو وكأنّه جيم جاونز في زمانه، في عزف موسيقى ما يبدو أنّه نشيد الحزب الرّسمي!
Est ce que c'est vrai ou bien votre imagination.
Sinon je n'y comprends rien. Est ce que à ce point ils sont cons.
حي-ميّت:
إنّها قصّة خيالية، بالتأكيد لها أصول كثيرة في الواقع.
شكرا لمرورك.
عاد هاو يقولو إلّي أهداف حزب الديك ماهيش الإنحلال الأخلاقي و التسيّب الجنسي.
ماكش مصدقتهم؟
سفيان:
تقول إحدى أعلام الأغنية التونسيّة رحمها الله "خلّي يقولو آش يهمّ"!
يجب أن أكون مصابة بداء غبائهم العضال (والمعدي والأكثر خطورة من انفلونزا الخنازير أيضا) حتى أصدّق أن أصل الحرّيات هي ممارسة الجنس وشرب الخمر في الشارع. ويجب أن تتوقف كل ملكات التقدير وآليات الفهم عندي حتى أصدّق أنّ كل هذا التركيز المحموم على كل ماهو جنسي ليس سوى "فن" و"حرّية"! مرحبا بك وشكرا لمرورك.