في هذا الصباح الربيعيّ الجميل الذي ينتظره أهل هذه المدينة الهادئة منذ أشهر، قفزت إلى ذهني ذكريات تعود إلى عهد بعيد. كانت أمّي تأخذنا نحن الفتيات كلّ نهاية أسبوع إلى الحمّام. لم يكن يعجبها من حمّامات الحيّ إلاّ حمّام "منّوبية". كان هذا الحمّام لسيّدة في بداية العقد السادس من عمرها. كانت طيّبة ومهذّبة، النموذج الأمثل للمرأة "البَلْديّة". وكانت تشغّل "حارزة" تشبه إلى حدّ كبير شخصية "نعيمة الكحلة" في مسلسل "الخطاب عالباب". كانت امرأة طويلة وضخمة، صعبة المراس، سيّئة المعشر. كانت صاحبة الحمّام تعطف عليها وتشغّلها لأنّها أرملة كان قد توفّي زوجها منذ سنوات وتركها وحيدة تَعول ولدا وبنتا. وكانت هذه البنت من أترابي وفي مثل سنّي. كانت فتاة ذكيّة ونشيطة. وكانت تدرس معي في مدرسة الحيّ. كنّا نتسابق على المقاعد الأولى في الدراسة. كان سباقا طفوليا وتنافسا جميلا. كانت تتفوّق عليّ أحيانا ولكن كثيرا ما كنت أتفوّق عليها. ولكن يبدو أنّ هذا لم يرق لوالدتها. كانت هذه الأخيرة تعاملني بطريقة سيّئة وتتعمّد الإساءة إليّ بسبب وبدون سبب. كنت كلّما رافقت أمي إلى الحمّام إلاّ وتركت في ذهني ونفسي شيئا. كنت أستغرب هذه المعاملة الخشنة وكثيرا ما أتساءل عن السبب. صحيح أنّني كنت في سني طفولتي ومراهقتي فتاة شقيّة ومشاكسة. لكنّني ما أسئت إليها يوما. لمّا كانت تنهرني أو تعاملني بطريقة فظّة، كنت أسأل والدتي عن السبب وكانت تقول لي دوما: "لا عليك يا بنيّتي، إنّها لا تقصد الإساءة إليك...". كنت أعرف أنّ أمّي تريدني أن أتجاهل فظاظتها وسوء سلوكها معي. كنت كثيرا ما أفعل ذلك وأعمل على تحاشيها قدر الإمكان. أمّا هي فقد كانت لطيفة مع بقية الأطفال وخصوصا ابنة خالي التي كانت ترافقنا أحيانا إلى الحمّام، إلاّ أنا. في مرّة من المرّات، انتهت الثلاثيّة وعدنا بدفاتر الأعداد إلى منازلنا. تفوّقت عليّ ابنتها في تلك المرّة وحلّت الأولى في القسم بينما اكتفيت أنا بدور وصيفتها الفضيّة. وفي الأسبوع الذي يليه شاءت الصدفة أن أرافق والدتي وأختي إلى الحمّام. في تلك المرّة، لم تعاملني بقسوة كالمعتاد وإنّما لمحت في نظرتها شعورا بالغبطة والزّهو. يومها سمعتها تسرّ إلى مشغّلتها أنّ ابنتها حنان قد تفوّقت عليّ. قالت لها ذلك وهي تضحك بشماتة المنتصر وتشير إليّ خفية. فردّت عليها السيّدة "منوبية" بورد من التعاويذ والدعوات الصالحات لها ولابنتها. لم أكن أكرهها سابقا رغم كل تصرّفاتها الخرقاء وكانت إحداها أن دفعتني في أحد الأيام بشدّة وكنت أحمل سطلا من الماء الساخن فسقطت واندلق عليّ ماء يتصاعد بخاره. لكنّني شعرت ذلك اليوم بكره شديد لها. نظرت إلى قبقابي فملكتني للحظة فكرة واحدة، أن أنقضّ على تلك المرأة الشّمطاء بتلك القطعة الخشبيّة القاسية وأشبعها ضربا كضرب المطارق أفرّج به عن كمّ الغيض الذي أحمله بسببها. عدلت بمرارة عن الفكرة لأنّني كنت أعلم أن أمّي لا تتسامح أبدا مع هكذا تصرّف، لا بل ستكون هذه المرّة العقوبة مزدوجة لأنّ تقريرا كارثيا سيقدّم إلى السيّد بابا مباشرة بعد عودتنا إلى المنزل. عدت ذلك اليوم كسيرة وفي قلبي ثورة عندما أتذكّرها الآن تنتابني نوبة من الضحك. كم هي غريبة طريقة تفكير الصغار! عزمت في داخلي أن أثأر لنفسي في الدراسة ومنذ ذلك اليوم وحتى غادرنا المرحلة الإبتدائية لم تتمكّن حنان من التفوّق عليّ. ومرّت الشهور والسنون، كبرت وواصلت رحلة طلب العلم بشغف. انقطعت عنّي أخبار حنان وأمّها بعد أن غادروا الحيّ. ولا أعرف إلى اليوم ما حلّ بهم وماهي تطوّرات حياتهم. لكن تلك الذكريات بقيت دوما محفورة في ذاكرتي. اليوم وبعد هذه السنين الطويلة، أنظر إلى تلك المرحلة بكثير من الحنين وكذلك التأمّل العميق. أقارن دوما شعور الأمّ الوحيدة التي تعاني لأجل تربية أبنائها وتصل بها رغبتها في رؤيتهم متفوّقين وناجحين في دراستهم إلى حدّ كره أيّ كان قد ينافسهم، بذلك السّجال والتنافس الشريف بيني وبين حنان وتلك الصداقة البريئة التي نشأت بيننا رغم إساءة والدتها إليّ. أتوصّل دائما إلى نفس الاستنتاج: أنّه ثمّة أناس قد تدفعهم تحوّلات تحدث في حياتهم أو ظروف يقعون تحت وطأتها أو أسباب نفسيّة قد يصعب معالجتها إلى كره الآخرين والحقد عليهم بلا سبب منطقي. ولكن رغم ذلك قد تجد أناسا يعيشون معك حياة مليئة بالمغامرات والسّجالات وقد يبادلونك مشاعر ودّ وصداقة وبينك وبينهم اختلافات عميقة لا حصر لها. ولقد قابلت وأقابل وسأقابل الكثيرين من بني جلدتي ممّن ينتمون للصنف الأوّل ويمثّل لديهم الحقد المرضيّ مذهبا والكره الأعمى دينا. حقد وكره وأشياء أخرى أقذر، فقط لأنّك تختلف معهم. لذلك أحمل معي دائما قبقابا فلعلّي أضطرّ إليه يوما لأعالج البعض من بوائقهم!
كتبت هذا النص:
تانيت، عبق التاريخ
في
الأربعاء، أفريل 29، 2009
رائع ممتاز
ابدعت يا تانيت
شكرا
القبقاب ينجم يفلت من يدّك. أعمل عصاة زيتون، تشلحط خير. كان تحب توّة نقصلك عصاة باهية من زيتونات الساحل، ضربة ضربة.
قصة جميلة و أسلوب سلس ، واصل
كلندو وعنصر:
شكرا لكما على التشجيع والمرور ومرحبا بكما.
سفيان:
ألا ترى معي أن شجرة الزيتون أشرف وأثمن من أن يقطع منها غصن يضرب به هؤلاء؟ ألا تعتقد أنهم من الأفضل أن يؤدبوا بالخراطيم التي تصنع من المادة الأكثر تلويثا لهذا العالم: النفط؟
شكرا لمرورك ومرحبا بك.